حرية الانسان كفلها له القران بكل حذافيرها وماله وما علية ولكن هؤلاء مدعي الحرية يريدون حرية أخرى غير التى كفلها لهم القران الكريم ولعل من أهم الخصائص التى أتصفت بها الامة الاسلامية أضطلاعهابتحقيق التوازن فى جميع الاموروالحرص على ذلك ليصفها بالقول (وكذلك جعلناكم أمة وسطا )فهي مبتلاة بالخير والشر فتنة لهافى هذه الحياة ليزداد المؤمن أيمنا وتقربا إلى الله بمواجهة الفتنة بنوعيها ولذا قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخيرفتنة وألينا ترجعون ) فهي معادلة لابد من الحفاظ على توازنها مهما تغيرت الظروف، وتقلبت الأحوال وتغيرت
ومن جملة هذه الموازنات الصعبة التي ابتليت الأمة بها: ضرورة المحافظة على وحدة الأمة في ضوء تحقيق مبدأ حرية الرأي والتعبير عنه. فما من شك أن الوحدة الجامعة لكيان الأمة ضرورة شرعية تفرضها تعاليم الإسلام، وحق التعبير عن الآراء هو أيضاً ضرورة قد يصبح في بعض الأحيان واجباً شرعياً، يلحق المؤمن بكتمانه وعدم إبدائه للناس إثماً كبيراً، ومما يشير إلى جدلية العلاقة بينهما (الوحدة الفكرية وحرية إبداء الرأي) أن القرآن الكريم أشار إليهما أحياناً بشكل متلازم. فعندما أمر القرآن بتحقيق الوحدة بين المسلمين وعدم جواز حصول الفرقة بينهم (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ، تلا ذلك أمر آخر بضرورة إبداء الرأي وعدم كتمانه (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، ثم أعقب ذلك تحذير من الفرقة والاختلاف فيما لو أخل بالتوازن بين الأمرين:
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
لقد أصبح الاستبداد بالرأي، وعدم القدرة على تقبل الرأي المخالف، وما نتج عنه من تشرذم فكري أفضى إلى الاختلاف والتنازع، ظاهرة مألوفة في مجتمعاتنا المسلمة، وبدت وكأنها إشكالية جوهرية تحول دون تحقيق الوحدة الشاملة للأمة، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة العلاقة الجدلية بين حرية الرأي والوحدة بشكل عام، تلك العلاقة التي أوحت للكثيرين بصعوبة تحقيق تفاعل إيجابي بينهما على أرض الواقع، لما تقتضيه حرية الرأي من الاختلاف المفضي إلى الفرقة غالباً، وهو ما يشكل نقيضاً للوحدة بمعناها العام، وربما كان للأساليب التي عولجت بها هذه العلاقة أثراً في ذلك أيضاً، ففيما شاعت حرية الرأي والتعبير عنه، وتم تبادل الأفكار والآراء في صدر الإسلام، مما ساهم في توحيد الأمة وعدم تشرذمها، بدا لآخرين فيما تلا ذلك من عهود أن حرية الرأي عامل يهدد وحدة الأمة، فعملوا على تقليص مساحته والتضييق من نطاقه، إلى أن شاعت مقولة "إغلاق باب الاجتهاد" كلياً، وبات الناس يجترون آراء من سبقهم دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيق الوحدة المزعومة، أو التقليل من آثار الفرقة والاختلاف.
لقد استخدمت العرب لفظ (حر) للتعبير عن كرام الناس وأشرافهم، كما عبرت به عن خيار الأشياء وحسن الأفعال والأعمال، وجاء القرآن بعد ذلك ليتجاوز التركز على اللفظ إلى تحقيق مضمونه، وذلك عندما جعل القضية الأساسية في مسألة الحرية تدور حول إنسانية الإنسان وكرامته، وضرورة تحقيق هذه الحرية بإفراد الله تعالى وحده بمفهوم العبودية لتتحقق إنسانية الإنسان بالتساوي أمام خالقه مع جميع أبناء جنسه.
وإذا كان مفهوم كلمة (الحرية) أصيلاً في اللغة، ويحمل معان إيجابية بشكل عام في التراث، فإن كلمة (رأي) التي تدور معانيها في اللغة بين الرؤية البصرية، والرؤية المنامية، والاعتقاد في الأمر، تحمل شحنة سلبية. فقد نُظر إلى كلمة (رأي) على أنها في مقابل (النص) دوماً، مما يعني منازعتها لقداسة النص ومجاله الحيوي، ثم زاد الأمر بعد ذلك عندما ظهرت الفرق والجماعات الإسلامية، التي انحاز بعضها أثناء احتدام الصراع إلى الرأي المحض، متجاهلة في بعض الأحيان دلالات النصوص ومراميها. كل ذلك أشاع حالة من النفور من استعمال لفظ (رأي) في حد ذاته، فضلاً عن منازعة لفظ (الاجتهاد) له وشيوع هذا المصطلح بين المسلمين للدلالة على الجهد العقلي المستنير والمقبول عندهم.
على أي حال، لقد أسهم النظر إلى مفهوم (حرية الرأي) في العصر الراهن استناداً إلى حمولته التراثية ( السلبية) بصفة عامة، في تفاقم حالة النفور منه، والابتعاد عن تحقيقه أو حتى تداول لفظه، بالإضافة إلى حالة الشعور بالضعف والفرقة والتشرذم التي تعانيها الأمة اليوم، ليتم اعتباره أحد العوامل الجوهرية فيما وصل إليه المسلمون في وقتنا الراهن.
يضحي إذن السبيل إلى استعادة المعنى الحقيقي لمفهوم (حرية الرأي) ودوره في المجتمع، في تجاوز تلك الفهوم الخاطئة عنه، والاستعانة بمنهج القرآن الكريم لإعادة بناء هذا المفهوم مجدداً في ضوء دلالته اللغوية، التي تجعل من هذا المفهوم يتبلور في معنيين اثنين: أحدهما: هو أن يسلك الإنسان أساليب وطرق النظر العقلي دون قيد أو مؤثر، والثاني: أن يكون في قدرة الإنسان إبداء ما يراه ويعتقده وإشاعته بين الناس دون قيد أو مؤثر. وحرية الرأي بهذين المعنيين مؤصلة في القرآن الكريم مفسرة عملياً في السيرة النبوية وحياة الصحابة الكرام.
ولما كان مفهوم (العبودية) في الإسلام يعني سعياً مستمراً من الإنسان للتحرر والانعتاق من نير الآخرين وفتنة الشهوات والأهواء خلوصاً لله تعالى، فإن حرية الرأي والتعبير عنه ـ وهي نتيجة منطقية له ـ هي سعي مستمر لحفظ كرامة الإنسان على المستويين: الفردي والجماعي.
فعلى المستوى الفردي نظر القرآن إلى الفرد الذي كرمه الله بالعقل والقدرة على التفكير، فأناط به مهمة القيام بالنظر العقلي ارتقاء بالعلم والمعرفة، فحرية الرأي بهذا الاعتبار ضرورة، بل واجب عيني مادام التفكير مهمة عينية، لذلك، دعا القرآن إلى إزالة كل العوارض والمؤثرات المعيقة لحرية التفكير عن ذهن الإنسان، كالتشبث بالعادات والتقاليد السيئة (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)، كما دعا القرآن إلى استبعاد نهج الطغاة المستبدين الصارف للأفكار عن سلوك طريق الحق السليمة كمنهج فرعون الذي قال : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )
ولكن مهما خلت نتائج النظر العقلي من مؤثرات وعوارض داخلية أو خارجية فقد يعتريها شيء من القصور، فالكمال لله وحده، والقرآن الكريم استدرك ذلك بتقرير حرية الرأي بمفهومها الثاني: أي ضرورة إبداء نتائج هذا النظر على الملأ لتكون مجالاً للتداول، فتكمل الآراء بعضها، وهذا هو المستوى الثاني لحفظ الكرامة الإنسانية.
فعلى المستوى الجماعي، قرر القرآن ثلاث قنوات لحرية الرأي:
أولاً: حرية الرأي في مجال الجدل في أمر الدين والمعرفة: فالقرآن حث الناس على الجدل بالحسنى طلباً للحق ذاته، مستخدمين في ذلك سبيل الحكمة والموعظة الحسنة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). ولم يستثن القرآن أمراً في ذلك دون آخر، حتى جاز الجدل والنظر في أمور العقائد والأفكار الكبرى كي تبنى على أسس متينة وسليمة.
ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبموجب هذه القناة يتمكن كل فرد في المجتمع الإسلامي أن يمارس حرية الرأي أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، ابتغاء الأجر عند الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، ودعا القرآن إلى تكوين عصبة قائمة على الحق ترابط في رعاية هذا المبدأ (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وحذر من وبال عدم القيام بهذا الواجب وعواقبه (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
ثالثاً: الشورى وإسداء النصيحة: فالشورى هي القناة الرئيسية لتداول الرأي في المجتمع الإسلامي، وعلاقة الشورى بحرية الرأي علاقة وثيقة، بحيث لايمكن تصور أي وجود للشورى خارج نطاق الرأي والرأي الحر الآخر.
فالرأي هنا مسؤولية ، وإبداؤه واجب نصحاً لجماعة المسلمين، وتحقيقاً للنفع العام، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن (إمعة) كالببغاء يلغي شخصيته المستقلة ورأيه الحر، ويتمثل مواقف الآخرين أياً كانت وجهتها : (لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا تجتنبوا إساءتهم). والقرآن، يضع العمل الشورى على مستوى الأمة موضع الخصلة الملازمة لأهل الإيمان (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) .
إن تحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين ضرورة وواجب شرعي، وإذا كان القرآن الكريم قد اعتبر العقيدة أصلاً يؤسس لهذه الوحدة، فإن حرية الرأي وإبداءه هي الآلية التي اعتمدها لتمتين هذا الأصل والشد من أزره، وإذا استطعنا أن نستوعب هذا المفهوم بمعزل عن إسقاطات الماضي ومؤثراته التي منحته شحنة سلبية، وتعاملنا معه على أساس كونه وسيلة لسلوك الإنسان أساليب النظر العقلي، ومن ثم القدرة على إبداء ما توصل إليه هذا الفكر دون قيد أو مؤثر، وصولاً إلى بلورة منهج إسلامي في إعمال العقل لنيل المعارف، فإن ذلك سوف يسهم بلا شك في التوصل إلى حد أدنى من الوحدة الفكرية للأمة، تكون ركيزة للتأسيس والبناء فيما بعد .
وهو الأمر الذي يمكننا إسقاطه على كثير من معطيات واقعنا، فعلى سبيل المثال: تعتبر الوحدة مطلباً جوهرياً لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، وممارسة الحرية في إبداء الرأي بما يعني من ظهور بوادر الاختلاف بين الآراء يجب ألا يؤدي في ضوء ممارسة الشورى وحرية الرأي إلى حجر على تلك الآراء والتصورات، بل إن ما يجب القيام به هو توحيد تلك الجهود الصادقة والنوايا الطيبة، والاستفادة من تعدد الآراء واختلافها، للوصول إلى قواسم مشتركة ومنهاج عمل موحد، يخدم القضية الأساس ولا يفرط بأي حق من الحقوق التاريخية، فاختلاف الآراء وتعددها سنة إلهية في البشر، لكن التعامل معها بإيجابية هو ما يغني حالة الوفاق والوحدة، فيما يؤدي الاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرار إلى تشتيت الجهود وزعزعة الوحدة، ونثر بذور الفرقة والتشرذم من حيث ظهر الآخرون خلاف ذلك.
ومن جملة هذه الموازنات الصعبة التي ابتليت الأمة بها: ضرورة المحافظة على وحدة الأمة في ضوء تحقيق مبدأ حرية الرأي والتعبير عنه. فما من شك أن الوحدة الجامعة لكيان الأمة ضرورة شرعية تفرضها تعاليم الإسلام، وحق التعبير عن الآراء هو أيضاً ضرورة قد يصبح في بعض الأحيان واجباً شرعياً، يلحق المؤمن بكتمانه وعدم إبدائه للناس إثماً كبيراً، ومما يشير إلى جدلية العلاقة بينهما (الوحدة الفكرية وحرية إبداء الرأي) أن القرآن الكريم أشار إليهما أحياناً بشكل متلازم. فعندما أمر القرآن بتحقيق الوحدة بين المسلمين وعدم جواز حصول الفرقة بينهم (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ، تلا ذلك أمر آخر بضرورة إبداء الرأي وعدم كتمانه (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، ثم أعقب ذلك تحذير من الفرقة والاختلاف فيما لو أخل بالتوازن بين الأمرين:
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
لقد أصبح الاستبداد بالرأي، وعدم القدرة على تقبل الرأي المخالف، وما نتج عنه من تشرذم فكري أفضى إلى الاختلاف والتنازع، ظاهرة مألوفة في مجتمعاتنا المسلمة، وبدت وكأنها إشكالية جوهرية تحول دون تحقيق الوحدة الشاملة للأمة، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة العلاقة الجدلية بين حرية الرأي والوحدة بشكل عام، تلك العلاقة التي أوحت للكثيرين بصعوبة تحقيق تفاعل إيجابي بينهما على أرض الواقع، لما تقتضيه حرية الرأي من الاختلاف المفضي إلى الفرقة غالباً، وهو ما يشكل نقيضاً للوحدة بمعناها العام، وربما كان للأساليب التي عولجت بها هذه العلاقة أثراً في ذلك أيضاً، ففيما شاعت حرية الرأي والتعبير عنه، وتم تبادل الأفكار والآراء في صدر الإسلام، مما ساهم في توحيد الأمة وعدم تشرذمها، بدا لآخرين فيما تلا ذلك من عهود أن حرية الرأي عامل يهدد وحدة الأمة، فعملوا على تقليص مساحته والتضييق من نطاقه، إلى أن شاعت مقولة "إغلاق باب الاجتهاد" كلياً، وبات الناس يجترون آراء من سبقهم دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيق الوحدة المزعومة، أو التقليل من آثار الفرقة والاختلاف.
لقد استخدمت العرب لفظ (حر) للتعبير عن كرام الناس وأشرافهم، كما عبرت به عن خيار الأشياء وحسن الأفعال والأعمال، وجاء القرآن بعد ذلك ليتجاوز التركز على اللفظ إلى تحقيق مضمونه، وذلك عندما جعل القضية الأساسية في مسألة الحرية تدور حول إنسانية الإنسان وكرامته، وضرورة تحقيق هذه الحرية بإفراد الله تعالى وحده بمفهوم العبودية لتتحقق إنسانية الإنسان بالتساوي أمام خالقه مع جميع أبناء جنسه.
وإذا كان مفهوم كلمة (الحرية) أصيلاً في اللغة، ويحمل معان إيجابية بشكل عام في التراث، فإن كلمة (رأي) التي تدور معانيها في اللغة بين الرؤية البصرية، والرؤية المنامية، والاعتقاد في الأمر، تحمل شحنة سلبية. فقد نُظر إلى كلمة (رأي) على أنها في مقابل (النص) دوماً، مما يعني منازعتها لقداسة النص ومجاله الحيوي، ثم زاد الأمر بعد ذلك عندما ظهرت الفرق والجماعات الإسلامية، التي انحاز بعضها أثناء احتدام الصراع إلى الرأي المحض، متجاهلة في بعض الأحيان دلالات النصوص ومراميها. كل ذلك أشاع حالة من النفور من استعمال لفظ (رأي) في حد ذاته، فضلاً عن منازعة لفظ (الاجتهاد) له وشيوع هذا المصطلح بين المسلمين للدلالة على الجهد العقلي المستنير والمقبول عندهم.
على أي حال، لقد أسهم النظر إلى مفهوم (حرية الرأي) في العصر الراهن استناداً إلى حمولته التراثية ( السلبية) بصفة عامة، في تفاقم حالة النفور منه، والابتعاد عن تحقيقه أو حتى تداول لفظه، بالإضافة إلى حالة الشعور بالضعف والفرقة والتشرذم التي تعانيها الأمة اليوم، ليتم اعتباره أحد العوامل الجوهرية فيما وصل إليه المسلمون في وقتنا الراهن.
يضحي إذن السبيل إلى استعادة المعنى الحقيقي لمفهوم (حرية الرأي) ودوره في المجتمع، في تجاوز تلك الفهوم الخاطئة عنه، والاستعانة بمنهج القرآن الكريم لإعادة بناء هذا المفهوم مجدداً في ضوء دلالته اللغوية، التي تجعل من هذا المفهوم يتبلور في معنيين اثنين: أحدهما: هو أن يسلك الإنسان أساليب وطرق النظر العقلي دون قيد أو مؤثر، والثاني: أن يكون في قدرة الإنسان إبداء ما يراه ويعتقده وإشاعته بين الناس دون قيد أو مؤثر. وحرية الرأي بهذين المعنيين مؤصلة في القرآن الكريم مفسرة عملياً في السيرة النبوية وحياة الصحابة الكرام.
ولما كان مفهوم (العبودية) في الإسلام يعني سعياً مستمراً من الإنسان للتحرر والانعتاق من نير الآخرين وفتنة الشهوات والأهواء خلوصاً لله تعالى، فإن حرية الرأي والتعبير عنه ـ وهي نتيجة منطقية له ـ هي سعي مستمر لحفظ كرامة الإنسان على المستويين: الفردي والجماعي.
فعلى المستوى الفردي نظر القرآن إلى الفرد الذي كرمه الله بالعقل والقدرة على التفكير، فأناط به مهمة القيام بالنظر العقلي ارتقاء بالعلم والمعرفة، فحرية الرأي بهذا الاعتبار ضرورة، بل واجب عيني مادام التفكير مهمة عينية، لذلك، دعا القرآن إلى إزالة كل العوارض والمؤثرات المعيقة لحرية التفكير عن ذهن الإنسان، كالتشبث بالعادات والتقاليد السيئة (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)، كما دعا القرآن إلى استبعاد نهج الطغاة المستبدين الصارف للأفكار عن سلوك طريق الحق السليمة كمنهج فرعون الذي قال : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )
ولكن مهما خلت نتائج النظر العقلي من مؤثرات وعوارض داخلية أو خارجية فقد يعتريها شيء من القصور، فالكمال لله وحده، والقرآن الكريم استدرك ذلك بتقرير حرية الرأي بمفهومها الثاني: أي ضرورة إبداء نتائج هذا النظر على الملأ لتكون مجالاً للتداول، فتكمل الآراء بعضها، وهذا هو المستوى الثاني لحفظ الكرامة الإنسانية.
فعلى المستوى الجماعي، قرر القرآن ثلاث قنوات لحرية الرأي:
أولاً: حرية الرأي في مجال الجدل في أمر الدين والمعرفة: فالقرآن حث الناس على الجدل بالحسنى طلباً للحق ذاته، مستخدمين في ذلك سبيل الحكمة والموعظة الحسنة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). ولم يستثن القرآن أمراً في ذلك دون آخر، حتى جاز الجدل والنظر في أمور العقائد والأفكار الكبرى كي تبنى على أسس متينة وسليمة.
ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبموجب هذه القناة يتمكن كل فرد في المجتمع الإسلامي أن يمارس حرية الرأي أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، ابتغاء الأجر عند الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، ودعا القرآن إلى تكوين عصبة قائمة على الحق ترابط في رعاية هذا المبدأ (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وحذر من وبال عدم القيام بهذا الواجب وعواقبه (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
ثالثاً: الشورى وإسداء النصيحة: فالشورى هي القناة الرئيسية لتداول الرأي في المجتمع الإسلامي، وعلاقة الشورى بحرية الرأي علاقة وثيقة، بحيث لايمكن تصور أي وجود للشورى خارج نطاق الرأي والرأي الحر الآخر.
فالرأي هنا مسؤولية ، وإبداؤه واجب نصحاً لجماعة المسلمين، وتحقيقاً للنفع العام، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن (إمعة) كالببغاء يلغي شخصيته المستقلة ورأيه الحر، ويتمثل مواقف الآخرين أياً كانت وجهتها : (لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا تجتنبوا إساءتهم). والقرآن، يضع العمل الشورى على مستوى الأمة موضع الخصلة الملازمة لأهل الإيمان (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) .
إن تحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين ضرورة وواجب شرعي، وإذا كان القرآن الكريم قد اعتبر العقيدة أصلاً يؤسس لهذه الوحدة، فإن حرية الرأي وإبداءه هي الآلية التي اعتمدها لتمتين هذا الأصل والشد من أزره، وإذا استطعنا أن نستوعب هذا المفهوم بمعزل عن إسقاطات الماضي ومؤثراته التي منحته شحنة سلبية، وتعاملنا معه على أساس كونه وسيلة لسلوك الإنسان أساليب النظر العقلي، ومن ثم القدرة على إبداء ما توصل إليه هذا الفكر دون قيد أو مؤثر، وصولاً إلى بلورة منهج إسلامي في إعمال العقل لنيل المعارف، فإن ذلك سوف يسهم بلا شك في التوصل إلى حد أدنى من الوحدة الفكرية للأمة، تكون ركيزة للتأسيس والبناء فيما بعد .
وهو الأمر الذي يمكننا إسقاطه على كثير من معطيات واقعنا، فعلى سبيل المثال: تعتبر الوحدة مطلباً جوهرياً لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، وممارسة الحرية في إبداء الرأي بما يعني من ظهور بوادر الاختلاف بين الآراء يجب ألا يؤدي في ضوء ممارسة الشورى وحرية الرأي إلى حجر على تلك الآراء والتصورات، بل إن ما يجب القيام به هو توحيد تلك الجهود الصادقة والنوايا الطيبة، والاستفادة من تعدد الآراء واختلافها، للوصول إلى قواسم مشتركة ومنهاج عمل موحد، يخدم القضية الأساس ولا يفرط بأي حق من الحقوق التاريخية، فاختلاف الآراء وتعددها سنة إلهية في البشر، لكن التعامل معها بإيجابية هو ما يغني حالة الوفاق والوحدة، فيما يؤدي الاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرار إلى تشتيت الجهود وزعزعة الوحدة، ونثر بذور الفرقة والتشرذم من حيث ظهر الآخرون خلاف ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق